من الطبيعي أن يتمكن المرء من تحقيق النجاح في حياته وبلوغ مراتب متقدمة من التفوق والشهرة إذا كان متمتعا بصحة جيدة وحواس متكاملة. ولكن قد يبدو غريبا أن يتمكن المرء من تحقيق الكثير من النجاح والتفوق والشهرة وهو يعاني من نقص أو إعاقة جسدية أو نفسية. تلك إذن هي القاعدة. ولكن أليس صحيحا أن لكل قاعدة شواذ؟ لا شك أن الجواب هو نعم. وبطلة قصتنا دليل حقيقي وملموس على صحة هذه القاعدة؛ فمن ذا الذي يصدق أن بمقدور شخص فاقد لحاستي السمع والبصر أن يصبح كاتبا عالميا وناشطا اجتماعيا وسياسيا لامعا، والأهم من ذلك مُلهِما لغيره من الأشخاص وحتى الأصحَّاء منهم؟ هيلين كيلر هي مثال لهؤلاء الأشخاص الذين تمكنوا من تحويل المحنة إلى منحة؛ فعاشت حياة طويلة زاخرة بالنجاح والتفوق والشهرة، رغم كم الصعوبات التي واجهتها منذ نعومة أظفارها. فتعالوا بنا لنسبر أغوار هذه الشخصية المتألقة في سماء الأدب والعمل الاجتماعي والسياسي والتحدي للإعاقة.
قائمة العناوين
الصعوبات والتحديات
لعل أكبر تحدٍ واجهته هيلين كيلر في بداية حياتها تمثل في عدم القدرة على التواصل مع العالم الخارجي؛ فكيف يمكن لطفلة عمياء صماء بكماء أن تعبر عن احتياجاتها وعما يدور في خَلدِها؟! ولذلك كانت هيلين تلجأ إلى تحطيم الأشياء التي حولها والصراخ والبكاء لكي تلفت أنظار المحيطين بها. يضاف إلى ذلك، الصعوبات التي واجهتها في بداية رحلة التعلم. ولأن هيلين لم تكن قادرة على رؤية طريقها بسبب العمى، فقد كان لا مفر من توفير شخص مرافق على مدار اليوم ليساعدها في التنقل والحركة من مكان إلى آخر.
وهنا قد يتبادر إلى الذهن سؤال فحواه: هل استسلمت هيلين لهذه الصعوبات والتحديات؟
الانطلاقة نحو النجاح والشهرة
وُلدت هيلين آدمز كيلر بولاية ألاباما الأميركية في السابع والعشرين من شهر يونيو عام ١٨٨٠م لعائلة تنحدر من أصول ألمانية. وقد كانت عائلتها غنية أفرطت في دلالها. إلا أنه كان لهيلين موعد مع القدر في وقت مبكر من حياتها؛ إذ أصيبت بمرض غامض في الدماغ وهي لم تتجاوز العامين من عمرها، مما أدى إلى فقدانها حاستي السمع والبصر. وعلى الرغم من ذلك فقد تعلمت هيلين لغة الإشارة من فتاة تدعى مارثا، وهي ابنة الطباخة التي كانت تعمل لدى عائلتها. وقد حرص والد هيلين على تعليمها، واستشار صديقه جراهام بل؛ مخترع الهاتف في الأمر، والذي نصحه بأن يجلب لها معلمة خاصة تدعى آن سوليفان، وقد كان ذلك. اشترطت آن أن تقيم في غرفة تقع في حديقة منزل عائلة هيلين، وقد استطاعت أن تنجح في تعليم هيلين الكثير خلال عام واحد. وقد أبدت هيلين طموحا لتعلم المزيد من معلمتها آن سوليفان، و تمكنت من تعلم القراءة عبر لغة برايل بأربع لغات وهي: الإنجليزية والفرنسية واللاتينية واليونانية.
وبعد فترة وجيزة قررت آن سوليفان أن تعلم هيلين الكلام، مما دفعها إلى اصطحاب تلميذتها النجيبة إلى معلمة متخصصة في النطق تدعى سارة فولر، فكانت تضع يدي هيلين على شفتيها عند نطقها للكلمات لكي تقرأ بهما حركة الشفتين وتتمكن من تكوين الجمل. وبمرور الوقت بدات هيلين بالكلام ولكنها واجهت صعوبة بالغة في البداية، ثم أصبحت تتكلم جيدا عن طريق التكرار. وقد كانت أول جملة نطقت بها: “لم أعد خرساء”. وحينما أصبحت هيلين شابة التحقت بمعهد كامبردج للفتيات، حيث درست الآداب والعلوم والفلسفة، ولا شك أنها واجهت صعوبات بالغة في بداية الأمر، إلا أنها – وبفضل دعم ومساعدة معلمتها آن سوليفان – حققت ما يشبه المعجزة؛ حينما حصلت على درجة الدكتوراة في العلوم والفلسفة في عامها الرابع والعشرين من عمرها. يقول الكاتب الأمريكي الشهير مارك توين: “أدعى الشخصيات إلى الإعجاب والاهتمام في القرن الـتاسع عشر كله شخصيتان: هيلين كيلر ونابليون”.
بعد تخرجها، بدأت هيلين كيلر في تنظيم حملات لجمع التبرعات لصالح المكفوفين على مستوى العالم، فاشتهرت وذاع صيتها، إلى درجة أنها أصبحت مطلوبة من جهات عديدة لإلقاء المحاضرات حول تجربتها وشرح أهداف حملاتها. ومما يجدر ذكره أن هيلين استطاعت أن تتعلم السباحة والتجديف وركوب الخيل والشطرنج وتفصيل الملابس بالإضافة إلى مهارات أخرى كثيرة. وقد أصبحت هيلين واحدة من أشهر الكاتبات في القرن العشرين، حيث ألفت ثمانية عشر كتابا، من أشهرها: الحب والسلام، وأضواء في ظلامي، والخروج من الظلام، وقصة حياتي الذي تم تحويله إلى دراما تلفزيونية عام ١٩٥٧م ثم إلى مسرحية وفيلم سينمائي عام ١٩٦٢م وحاز على عدة جوائز. ويُذكَر أن كتب هيلين كيلر تُرجمت إلى ٥٠ لغة، كما أنها حاضرت في عشرات الجامعات حول العالم بلغات مختلفة، وتمكنت من جني ثروة كبيرة بفضل عزيمتها وإرادتها.
ولم تتوقف نشاطات هيلين عند حد الكتابة وإلقاء المحاضرات فحسب؛ بل تعدت ذلك إلى الدخول في معترك السياسة وحقوق الإنسان؛ فخلال النصف الأول من القرن العشرين ساهمت في التصدي للعديد من القضايا الاجتماعية والسياسية، بما في ذلك حق المرأة في التصويت، وتحديد النسل، كما توجهت بعدة خطابات إلى الكونغرس الأمريكي طالبت فيها بتحسين أوضاع المكفوفين ومساعدتهم.
وفي عام ١٩١٥م، تم تأسيس مؤسسة هيلين كيلر انترناشيونال لمكافحة أسباب وعواقب العمى وسوء التغذية، وكانت أحد الداعمين الرئيسيين للاتحاد الأمريكي للحريات المدنية. وفي عام ١٩٢١م، شاركت هيلين كيلر في عضوية الاتحاد الأمريكي للمكفوفين ونظمت عددًا من الحملات لرفع مستوى الوعي والدعم للمكفوفين. كذلك انضمت إلى منظمات أخرى تُعنى بمساعدة الفقراء من المكفوفين.
دخلت هيلين كيلر المعترك السياسي من بوابة الحزب الاشتراكي، ويرجع ذلك إلى صداقتها مع جون ميسي، زوج معلمتها آن سوليفان. وبين عامي ١٩٠٩م و١٩٢١م، كتبت عدة مقالات عن الاشتراكية ودعمت يوجين دبس، مرشح الحزب الاشتراكي للرئاسة. كما أصدرت سلسلة مقالات عن الاشتراكية، حملت عنوان خارج الظلام.
وفي عام ١٩٤٦م، عُينت مستشارة للعلاقات الدولية للمؤسسة الأمريكية للمكفوفين الأجانب، وسافرت إلى أكثر من ٣٥ دولة في خمس قارات، حيث ألقت العديد من المحاضرات والخطب التي ألهمت آلاف الأشخاص حول العالم سواء من أصحاب الإعاقات أو الأصحاء.
من أشهر أقوال هيلين كيلر التي تبعث على التفاؤل وعلو الهمة:
“هناك من يسمع ولا ينصت، ينظر ولا يرى، يشعر ولا يحس. وعلمت أن العمى هو عمى القلب وليس البصر”.
“الإيجابية ليست ألاَّ تحزن، بل أن تتقن فن التعامل مع الحزن”.
“عندما يُغلق بابٌ للسعادة، يُفتح آخر، لكن البعض منا يُصر على الوقوف أمام الباب المُغلق، دون محاولة البحث عن باب آخر”.
“لست أعلم متى تحققت من كوني مختلفة عن الآخرين لكنني عرفت ذلك فعلا قبل مجيء معلمتي”.
“كان أهم يوم في حياتي على ما أذكر هو ذلك اليوم الذي جاءت معلمتي إليّ فيه، وليملأني العجب حين أفكر في الفوارق بين هذين الشطرين من حياتي”.
الدروس المستفادة
- الإرادة تصنع المستحيل: تعد قصة حياة وتألق هيلين كيلر مثالا في غاية الوضوح على أن الإعاقة ليست إعاقة الجسد بل هي إعاقة الفكر والإرادة. فحَريٌ بمن أنعم الله تعالى عليه بنعمه التي لا تعد ولا تحصى ألا يقف عاجزا عن تحقيق ما يريد مهما كانت التحديات والصعوبات.
- ابحث عمن يدعمك: ليس عيبا أن تطلب الدعم من الأشخاص المحيطين بك، بل إن ذلك أمر مطلوب في كثير من الحالات. إسأل غيرك وتعلم منهم ولا تتوانى عن الأخذ بما يقترحونه عليك في سبيل تطوير مهاراتك وتفجير طاقاتك الدفينة.
- التعلم هو سر التقدم: لا تتوقف عن طلب العلم طوال حياتك؛ فالعالم من حولك يتطور ويتقدم، وعليك – تبعا لذلك – ألا تتوقف عن التعلم ما دمت تتنفس الهواء. كما أنه ينبغي الاستفادة مما تعلمته في تحسين حياتك وتحقيق أهدافك.